
28 أيلول -في قلب مدينة صيدا القديمة، فوق الموقع الأثري في مدرسة الفرير، يتشكل متحف جديد يُرتقب أن يكون واحداً من أبرز المتاحف في المنطقة. الموقع الذي احتضن تنقيبات كشفت عن تسلسل استيطاني متواصل منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى العصور الوسطى، يروي عبر طبقاته المتراكمة حكاية مدينة عرفت التكيّف والصمود والتحولات عبر آلاف السنين، من صوامع الحبوب والمعابد المهيبة إلى المقابر الجماعية.
وزير الثقافة غسان سلامة يؤكد لـ”العربي الجديد” أنّ 50% من أعمال بناء المتحف أُنجزت، فيما تبقى نحو 5 ملايين دولار لاستكمال المشروع، ويشير إلى مساعٍ حثيثة لتأمين التمويل رغم الظروف الصعبة، إذ يُنظر إلى المتحف باعتباره استثماراً ثقافياً يحفظ هوية لبنان.
عام 1998 بدأت بعثة المتحف البريطاني التنقيبات بعد انتقال مدرسة الفرير إلى منطقة الرملية، لتظهر طبقات أثرية هائلة. المدير العام للآثار سركيس خوري يلفت إلى اكتشاف تاج عامود برأس ثور يرجّح أنه من بقايا قصر لقائد فارسي استقر في صيدا، مستعيناً بأهلها لمحاربة الإغريق والمصريين. أما المسؤولة عن آثار الجنوب مريم زيادة فتصف الموقع بأنه “مدينة متراكمة”، إذ تتجاور بيوت دائرية من العصر النحاسي مع طبقات لاحقة تمثل عصوراً متتابعة.
الدكتورة كلود ضومط سرحال، المديرة العلمية لبعثة المتحف البريطاني، توضح أن مساحة المتحف ستبلغ 1600 متر مربع، يضاف إليها سقف يغطي الموقع الأثري بمساحة 2000 متر مربع. وتشير إلى تصميم يشمل ممرات للزوّار، وحدائق صغيرة، ومساحات داخلية وخارجية تتيح عرض المكتشفات وحمايتها في مكانها الأصلي. ولأول مرة سيتمكن الزائر من خوض تجربة مزدوجة: مشاهدة الموقع الأثري والمتحف الذي يحمي كنوزه في آن واحد.
المتحف سيأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن، تبدأ من الألف الثالث قبل الميلاد وصولاً إلى العصور الوسطى. من بين المعروضات تمثال لكاهن فينيقي من الألفية الأولى قبل الميلاد، وجرّة بزخرفة بحرية كريتية تعود إلى الألفية الثانية، تجسّد دلفيناً يقفز فوق الأمواج. هذه القطع تكشف ملامح الحياة اليومية القديمة: الآلهة التي عبدها الصيدونيون، والطعام الذي أكلوه، والتجارة التي ربطت مرفأهم بمصر وكريت وقبرص والأناضول واليونان.
وتتوقف سرحال عند تفاصيل مثيرة: ففي بيت من عصر البرونز المبكر عُثر تحت الأنقاض على 160 كيلوغراماً من الحبوب المتفحمة، مكدّسة بعناية داخل غرف تحت الأرض محصنة بالكلس. نظام التخزين هذا يعكس تخطيطاً بعيد المدى وتنظيماً مجتمعياً متقدماً، كما كشفت مقابر الألف الثاني قبل الميلاد عن 173 دفناً متنوعاً، بينها مقابر محاربين بأسلحتهم وأطفال مزيّنون بالحلي.
نحو عام 1750 قبل الميلاد، استعادت صيدا حيويتها ببناء معبد ضخم تجاوز طوله 37 متراً، هيمن على المستوطنة. وفي القرنَين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، شيّد الصيدونيون معابد جديدة، بينها “قدس أقداس” تحت الأرض ما زال قائماً حتى اليوم شاهداً على طقوسهم الدينية.
الحقبة الرومانية تركت بدورها بصمة لافتة، إذ أسفر بئر روماني عن اكتشاف أكثر من 150 تمثالاً صغيراً من التيراكوتا، تمثل أجساداً بشرية وأشكالاً حدباء ورؤوساً متوّجة، شبيهة بما عُثر عليه في بعلبك، كما وُجد تمثال رخامي صغير للإلهة فينوس بارتفاع 30 سنتيمتراً، إلى جانب عملات برونزية تعكس ازدهار صيدا في تلك المرحلة.
المتحف المنتظر ليس مجرد مبنى لحفظ القطع الأثرية، بل نافذة على تاريخ مدينة عريقة. إنه جسر يصل الماضي بالحاضر، وفضاء يتيح للزائرين التعرّف على أجدادهم وعلى مسار حضارة متجذرة في البحر المتوسط. هكذا، تتحوّل صيدا من جديد إلى شاهد حي على أن المدن، مثل البشر، تعيش وتتعلم وتنهض بعد كل سقوط.