
الكاتب
الدكتور مهند مبيضين
وصف الكاتب مبيضين بانها مهد الحضارة وان شعبها يتمتع بحضارة ناصعه واضاف في مقاله يقول…
أطلق الأشقّاء السوريون هويةً بصرية لسورية الجديدة، سورية الوحدة كما نأمل لها. وفي قلب هذه الهوية رمزية الطير الجارح (العُقاب بدلالته التاريخية) وفوقه ثلاث نجمات. ولا أدري لماذا الإصرار على الطيور الجارحة، في شعارات الدول، وسورية لا تنفرد بذلك، فدول كثيرة تستخدم تلك الرموز، وبعضها يستخدم الجمل أو الأسد، إلخ. لكن لبنان الشقيق الذي ولد في زمن معاصر لسورية المعاصرة، اختار أهله شجرة الأرز شعاراً في قلب العلم، ليقدّم صورة لبنان للعالم، واختار الكنديون ورقة القيقب رمزاً وطنياً.
وسورية موطن الحضارة، ودمشق أقدم المدن المأهولة وأهدت إلى البشرية حضارة ناصعة، فلماذا الطير الجارح؟ ألم يكن أجدى أن يكون الشعار من ياسمين دمشق أو فُلّها أو نسرينها أو وردها الجوري؟ ألم يُهد الدمشقيون العالم سرديّة الفلّ والزنبق أو أسماء شجر ريوتها وغوطتها التي عُدّت من أنزه جنان الأرض، وقال فيها حسّان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم/ بردى يصفق بالرحيق السلسل؟ … أو من متنزّه نهر الأبله، الذي يُعدّ من أجمل متنزّهات الأرض؟ ألم تسافر القدود الحلبية إلى الأندلس مع بني أمية وعادت إلى الشرق موشّحات؟ ألم يؤلف السوريون أكثر الناس في مباهج الورد ومحاسنه؟ ألم تملك دمشق واحداً من أسواقها باسم “سوق الدهشة”؟ يريد السوريون اليوم هوية بصرية برموز دالّة على القوة وشوكة الدولة ووحدها. لكني لا أجد أبلغ من قوة الياسمين الدمشقي، وردة دمشق الشام.
وزاد المبيضين على جمال سوريا بمقاله وقال
حين دخل جيش فيصل بن الحسين دمشق عام 1918، وأعلن الدولة العربية الموحّدة، كانت سورية خارجة للتو من زمن الاستبداد الحميدي، آنذاك تدثرت ركب خيل الثورة العربية بالياسمين الدمشقي والفلّ والنرجس والورد والزنبق، آنذاك وما زال، ظلّ ياسمين دمشق ابلغ حضوراً وأشع وجوداً، وظلّ ماء وردها يعطر موائد المدن ومصانع عطرها الباذخ.
طائرٌ جارحٌ لدولة، في ذاكرتها جراحٌ كثيرة عبر نصف عقد وأزيد، ولكن الذي حفظ لسورية وحدتها ذوق أهلها الرفيع، وحبّهم الحياة وإيمانهم بأن دمشق سيدة المدن، وأن حلب درّة التاج في طريق الحرير الحضاري، لا طريق الحرير المطروح اليوم للتنافس على زعامة العالم.
لا تستقيم الجوارح مع صابون الغار الحلبي المعجون بالعسل وحبّة البركة، والذي أهدى إلى السوريين نضارة الأبدان، ولا تستقيم الجوارح مع رائحة خبز حِمص، ولا مع موارد الجُبن إلى السوق الكبير في حماة، ولا مع سنابل حوران وقمحه اللامع الذي أطعم روما زمناً مديداً يتجاوز الـ 14 عاماً من ثورتها المجيدة والمستحقّة نصرها الأخير..
وعن الاداب والحضارة في دمشق يقول المبيضين
أيها السادة، إنها دمشق، التي ألّف فيها ابن كنان الصالحي في القرن الثامن عشر، حين أراد استحضار الآداب السلطانية كتاباً بعنوان “حدائق الياسمين في قوانين الخلفاء والسلاطين”، وهي التي وضع فيها الأديب محمد بن أحمد الكنجي كتاب “بلوغ المنى في تراجع اهل الغنى”، وهي التي انتشر فيها العشق بين البيوت في ظاهرةٍ من التقارب العمراني قلّ نظيرها، أطلق عليها “التعشيق”، وتلك نافورتها في مقهى النوفرة التي تحدّث عنها ابن بطوطة حين زارها.
إنها دمشق نصّ للراحل خيري الذهبي في معنى الحرية من القنوات إلى كفر سوسة، أو مشهد من مكتب عنبر الذي خرّج نخبة بلاد الشام في التعليم، أو صرخة عالم دمشقي، مثل أبي المواهب الحنبلي وعبد الغني النابلسي، اللذين قاوما في زمن آل عثمان الظلم، وتعرّضا للعزل والنفي، يومها أفتى النابلسي بوجوب هجرة القرى في الريف، لمنع الولاة القاسطين الظلَمة من أخذ الرسوم، وتلك الغضبة امتدت قروناً، ثم انفجرت من درعا في شكل آخر مع صوت الحرية، بلحن لسميح شقير وأعاده بنشيد “يا حيف”، وكان قد سأل عام 1983 بقصيدته “لمن أغني” عن بدايات الحرية، أو بصورة إنسانية بالغة الأثر في أشعار ممدوح عدوان في “جبل المجازات”.
هي دمشق الشام حلقات متصوّفة ونداءات سوق عظيم، هناك في ليلة العيد يرتب الناس أطواقاً من ورق الآس وورد الياسمين لزيارة المقابر. وسورية الراهنة التي تحتاج اليوم للمنعة ومظاهر قوة الدولة صحيح، لكن ماء الورد والزهر الدمشقي الذي صدّرته دمشق إلى العالم عبر السنين سيظل سيّد المنكّهات والعطور، فمن دمشق انتقلت وردة الجوري إلى روما مع جند الرومان العائدين منها، ومنها انتقلت إلى لندن، واصبحت بعد ذلك رمزاً للعائلات الملكية في بريطانيا. وفي القرن التاسع الميلادي، استخدم ماء الورد الدمشقي في منازل غرناطة وإشبيلية، وظهر الورد رمزاً في ثياب الفلامنغو. ثم انتشرت الوردة الدمشقية كجسر للتبادل الحضاري، وهي التي تحدّث عنها شكسبير ونزار قباني الذي قال: “جئتكم من تاريخ الوردة الدمشقية التي تختصر تاريخ العطر”.
إنها دمشق مرّة أخرى بعودات متكرّرة إلى التاريخ، من باب شرقي وباب الجابية، والتي اعتادت العودة من الركام، عبر رسالة فقيه أو قصيدة شعر أو قطعة من حرير الدامسكو/ البروكار أو القيشاني. وهي بذلك الإرث قادرة على أن تجعل العُقاب يطارح الحَمَام الدمشقي هديلاً، ويتعطّر برائحة وردها ويُفرد جناحيه حنواً على مآذن الشام وأبراج كنائسها…
.
ويختم المبيضين
أعرف أن للعُقاب في الهوية البصرية دلالات جرى شرحها، ولكل السوريين أمنيات الاستقرار والاستمرار بالفعل الحضاري، لكنها استمرارية الورد والياسمين والفلّ الذي طوّع النفوس الكبار، وهو الذي جعل السوريين أهل هدأة وتمدّن، وهو أجمل ما يشبه السوريين مع صوت مآذنهم وقرع أجراس كنائسهم ونوافذهم المزنّرة بتوقيعات الزمن البهي ورائحة التاريخ.