Skip to main content

صالح الشادي/ أرضنا: مهد البشرية ومنبع الحضارات

» المشاركة على منصات التواصل الإجتماعي :

الكاتب



د.صالح الشادي

29.9.2025

تمثِّل الأرض التي يعرفها الجميع اليوم بالمملكة العربية السعودية قلب العالم القديم ومسرحاً لأهم أحداث التاريخ الإنساني. فالتقنيات العلمية الحديثة تكشف يوماً بعد يوم عن أدلة مادية تثبت عمق الجذور الحضارية لهذه المنطقة، ولعل اكتشاف أقدم مستوطنة معمارية مؤخراً في موقع (مصيون) بمنطقة تبوك دليل بارز على ذلك.

يعود تاريخ هذا الموقع الأثري الفريد إلى الفترة بين 10,300 و11,000 سنة، أي إلى العصر الحجري الحديث قبل الفخار، وذلك ضمن أعمال المسح والتنقيب المشتركة مع جامعة كانازاوا اليابانية.

كانت الجزيرة العربية في تلك العصور السحيقة بيئة مختلفة تماماً؛ إذ تلت العصر الجليدي فترة أكثر رطوبة تحولت فيها هذه الأرض إلى سهول خضراء تجري فيها الأنهار، مما جعلها مقصداً للبشر الذين أقاموا مجتمعات قائمة على الصيد وجمع الثمار، ثم تطورت إلى مجتمعات زراعية مستقرة أتقنت تدجين الحيوانات وتركت وراءها شواهد رسوم صخرية ومستوطنات دائمة مثل تلك المكتشفة في (مصيون).

مع حدوث تحول مناخي كبير وموجة جفاف تدريجية، شهدت الجزيرة العربية فصلاً جديداً من فصول تأثيرها الحضاري. فقد أدت هذه التغيرات إلى هجرات بشرية كبرى شكلت نواة العديد من الحضارات اللاحقة.

انتقل السكان من قلب الجزيرة العربية حاملين معهم المعرفة والمهارات نحو وادي الرافدين فأسهموا في قيام الحضارات هناك، ونحو وادي النيل، وكذلك شمال إفريقيا والأناضول. وبالتالي، فإن الكثير من الحضارات التي قامت في المنطقة المحيطة -على عكس ما هو معتقد – تحمل في جذورها بصمة الإنسان العربي القديم.

ويأتي بعد هذا السياق التاريخي العميق السياق الديني الذي تتفرد به هذه الأرض. وفق المعتقدات السماوية، فإن الجزيرة العربية شهدت هبوط آدم وحواء عليهما السلام في مواقع متقاربة على أرضها، (جدة والطائف) لتبدأ منها رحلة البشرية من جديد. ثم تأتي المحطة الأبرز بدعوة النبي إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع عند موقع البيت الحرام.

لقد كانت دعوته الخالدة {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (سورة إبراهيم: 37)، نبوءة بمستقبل هذا البلد، حيث تحقق الجزء الأول بجعل مكة قبلة للقلوب، وها هو الجزء الثاني يتحقق في العصر الحديث بـ»رزق الثمرات» بمفهومه الشامل.

ومن هذه الأرض الطيبة انبثقت شمس الإسلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لتنطلق منها حضارة إنسانية جديدة أضاءت العالم. ومع مرور القرون، دخلت المنطقة في فترة طويلة من التشرذم القبلي وغلبة شظف العيش، حيث تناحرت القبائل على الموارد الشحيحة في ظروف قاسية من الجفاف والفقر، مما جعلها غير جاذبة لأطماع القوى الخارجية التي لم تكن ترى في صحرائها القاحلة ثمناً يستحق العناء.

كان تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله هو المنعطف الحاسم في التاريخ الحديث. فتحقق حلم لم يتحقق عبر آلاف السنين: توحيد هذه الأرض المترامية تحت كيان سياسي واحد مستقر هو المملكة العربية السعودية عام 1932م. هذا الاستقرار هو الذي مهد الطريق للحدث المصيري: اكتشاف النفط. وكأنما هي استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، انقلبت الصحراء القاحلة إلى مورد عالمي للطاقة، لترزق «أهلها من الثمرات» بمعناها الواسع، الذي يشمل الخير المادي والمعنوي، والثمرات الطبيعية والبشرية، فتحولت المملكة إلى دولة رائدة على الخريطة العالمية.

تثبت هذه الرحلة التاريخية الطويلة أن الجزيرة العربية لم تكن يوماً أرضاً صماء، بل كانت دوماً قلباً نابضاً للحضارة الإنسانية. من أول مستوطنة معمارية في (مصيون) قبل أحد عشر ألف عام، إلى هجراتها التي شكلت العالم، إلى كونها مهداً للرسالات السماوية ومنطلقاً للدعوة الإسلامية، وصولاً إلى قيام الدولة السعودية التي جسدت الوحدة بالمفهوم الشامل وتحولت إلى دولة عصرية مزدهرة.

إن المملكة العربية السعودية اليوم هي امتداد حي لتاريخ عريق، وتحقيق عملي لدعوة خليل الله، ووطن يستحق أن نفتخر بجذوره الضاربة في عمق التاريخ وبمستقبله الزاهر الواعد.

بث مباشر SEYAHA FM 102.3 يبث الآن